بعد أن أوضحنا المناهج العامة التي يتفق عليها جميع المحدثين، يجدر بنا أن نوضح المناهج الخاصة للمحدثين.
ويُقصد بها: "الأساليب والشروط الخاصة لبعض الأئمة في الأسانيد والمتون التي أوردوها في مصنفاتهم ومروياتهم".
وقد عرفنا تلك المناهج من خلال سَبر كُتبهم واستقراء مناهجهم فيها، أو نصِّهم على الطريقة التي ساروا عليها، وسوف نتعرض لأبرز الأئمة الذين كانت لهم مناهج خاصة، قرروها والتزموا بها وساروا عليها، وسيكون أول من نتعرض لمنهجه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
منهج الإمام البخاري المتعلق بالأسانيد:
كان للإمام البخاري مصنفات عديدة كالتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وغير ذلك من المصنفات، ولكن الذي نقصده هنا هو منهجه في "الجامع المسند الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، والمعروف ب ـ "صحيح البخاري"، والذي صار أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وصار منهجا يُحتذى به، وأنموذجا يقاس عليه.
أولا: شروطه في أسانيد صحيحه:
1- الصحة:
أن تتوفر في كل حديث يخرجه في صحيحه شروط الحديث الصحيح المعروفة، وهي ثقة الرواة، والاتصال فيما بينهم، وخلوّ الحديث من الشذوذ والعلل.
2- الرجال (الرواة):
أن يجمع الراوي بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للراوي ال ـ مُكثر، حتى يُخرج له في الأصول، وأما إذا لم يُلازم الراوي المكثر إلا مدة يسيرة فإنه يُخرج له في المتابعات والشواهد.
3- اتصال السند المعنعن:
أن يثبت اتصال الراوي بمن روى عنه بالعنعنة بالنصّ، دون الاكتفاء بالمعاصرة وإمكانية اللقاء فقط.
ثانيا: منهجه في ترتيب أحاديث صحيحه:
1- الترتيب على أبواب الفقه:
بنى الإمام البخاري كتابه على تراجم الفقه، حيث يخرج الحديث من الباب لينتزع منه الدلالة على ما ترجمه به، ويكتفي بحديث أو حديثين، وأحيانا يستدل للمسألة بعدد من الأحاديث على طريقة استخراج الفقه منها، لا أنه يقصد الفوائد الحديثية.
2- ترتيب الأحاديث في الباب:
لم يكن للإمام البخاري منهج مطرد في ترتيب أحاديث الباب الواحد، بل كان ترتيب أحاديث الباب يخضع في كل مرة للغرض الذي من أجله ساق تلك الأحاديث، فقد يورد الحديث لتسمية راوٍ، أو للتنبيه على زيادة في الرواية، أو لأجل تصريح راوٍ بالسماع من راوٍ آخر، أو لبيان نسخ حكم، أو غير ذلك من الفوائد، ويمكن القول أنه يقدم الإسناد العالي أولا ثم يُتبعه النازل، ولكن هذا لم يكن مطَّرداً، بل كان أغلبيًّا.
ثالثا: منهجه في المعلقات والمراسيل:
الأصل أنه لم يُخرج في صحيحه إلا ما اتصل سنده، ولكنه في التراجم (عناوين الأبواب) والمتابعات أورد بعض الأسانيد غير المتصلة (المعلقة والمرسلة) لأغراض علمية ثانوية.
1- المعلقات: الحديث المعلق هو الذي سقط من مبتدأ سنده (من جهة المصنف) راوٍ أو أكثر على التوالي، والأحاديث المرفوعة التي ذكرها الإمام البخاري معلقة لها حالتان:
أولها:
بعض المعلقات أوردها موصولة في موضع آخر من صحيحه، وسبب تعليقه أنه لا يكرر شيئا إلا لفائدة، فإذا كان المتن يشتمل على أحكام متعددة فإنه يكرِّره بحسبها، أو يقطعه في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى.
ومع ذلك فلا يكرر الإسناد، بل يغاير بين رجاله، فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد، واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها، فإنه قد يختصر المتن أو الإسناد، وهذا أحد أسباب التعليق.
ثانيها:
ما لا يوجد إلا معلقا، وهو إما أن يكون بصيغة الجزم أو التمريض، فأما ما كان بصيغة الجزم فمنها ما هو صحيح لكنها ليست على شرطه، ومنها ما هو ضعيف بسبب الانقطاع، وأما ما كان بصيغة التمريض.
فمنها الصحيح والحسن والضعيف، لكونها جميعا ليست على شرطه في الاتصال، ولكنه متى أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف منجبر، وإن أورده في معرض الرد فهو ضعيف عنده.
2- المراسيل:
الحديث المرسل هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون سقط منه صحابي أو صحابي وتابعي، أو ربما أكثر من ذلك، وبالتالي فهو من أنواع المنقطع، ولما كان اتصال السند شرط من شروط صحيحه، فإن الأحاديث المرسلة ليست على شرطه ولم يخرجها للاحتجاج بها، ولذا فهي مروية في المتابعات والشواهد.
والفائدة من إيراده للمراسيل: أنه يريد الإشارة إلى الخلاف في الحديث، وأنه صحيح لا يضره الخلاف، حيث يُخرج الحديث على الوجهين: الإرسال والوصل، أو الوقف والرفع، فيُخرجه أولاً من طريق صحيح متصل، ثم يذكر المرسل في المتابعات والشواهد والمعلقات، وبذلك يكون المرسل مقويًّا للمتصل بعد أن ثبتت صحة الوصل والرفع.
رابعا: منهجه في الآثار الموقوفة:
يورد الإمام البخاري الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات، على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب، في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، ويجزم بما صح عنده من الآثار الموقوفة، ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع، إلا حيث يكون منجبرا، إما بمجيئه من وجه آخر أو بشهرته عمن قاله.
خامسا: منهجه في تكرار الحديث:
كرر الإمام البخاري كثيرا من الأحاديث في عدة مواضع، ويستدل في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلَّما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإن كان قد وقع له شيء من ذلك فعن غير قصد، وهو قليل جدا، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ وفوائد، نذكر منها:
1- أن يخرج الحديث عن حدِّ الغَرابة:
حيث يذكر الحديث عن صحابي، ثم يورده عن صحابي آخر، وكذلك يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة، وهلمّ جرا.
2- إزالة الشبهة عن الناقلين:
حيث يروي بعض الرواة الأحاديث تامة، ويرويها بعضهم مختصرة، فيوردها كما جاءت تامة ومختصرة ليزيل الشبهة عن ناقليها.
3- اختلاف عبارات الرواة:
قد يحدِّث الراوي بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، ويحدث به آخر فيعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه، ويُفرد لكل لفظة بابا مفردا.
4- تعارض الوصل والإرسال أو الوقف والرفع:
إذا رجح عنده الوصل فإنه يورد الوصل والإرسال، منبِّها أن الإرسال لا تأثير له عنده في الوصل، وكذا إذا رجح عنده الرفع فإنه يورد الموقوف منبِّها أنه لا تأثير له عنده على الرفع.
منهج الإمام البخاري المتعلق بالمتون
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
قسم الإمام البخاري صحيحه إلى سبعة وتسعين كتابا، وقسّم كل كتاب منها إلى عدد من الأبواب، وجعل لهذه الأبواب عناوين تدل على ما فيها من أحاديث، عرفت هذه العناوين بالتراجم، وتنوعت هذه التراجم – بحسب ظهور دلالتها على أحاديث الباب وخفائها – إلى ما يلي:
1- تراجم ظاهرة:
هي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو بمعناه، مثال ذلك قول البخاري: "باب علامة الإيمان حب الأنصار"، ثم أخرج حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعا: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار).
2- تراجم خفية (استنباطية):
هي أن يأتي في لفظ الترجمة احتمالٌ لأكثر من معنى، فيعيّن أحد الاحتمالين بما يذكر تحتها من الحديث، أو أن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، ومثال ذلك قول البخاري: "باب جهر الإمام بالتأمين".
ثم ذكر حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعا: (إذا أمّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه)، فهذه ترجمة خاصة بجهر الإمام في التأمين، مع أنه ليس في الحديث ذكر صريح للجهر، بيد أن الحديث محتمل لذلك، فجاءت الترجمة لتعين هذا الاحتمال.
3- تراجم مرسلة:
هي قول الإمام البخاري "بابٌ"، من غير أن يذكر عنوانا لهذا الباب، وهذه التراجم قليلة إذا ما قيست بالظاهرة والخفية، وقد تكون الترجمة المرسلة بمنزلة الفصل مما قبلها مع تعلقه به، أو تكون متعلقة بالكتاب وليست بمنزلة الفصل.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد والتعليق على بعض الروايات:
عقّب الإمام البخاري بفوائد ولطائف للتوضيح أو التنبيه ونحو ذلك، وينتظم تحت ذلك ما يلي:
1- غريب الحديث:
عني الإمام البخاري بشرح شيء من غريب الحديث، وتفسير ما يتعلق بحديث الباب من غريب القرآن، قال بعد حديث (العنَزَة)، "العنزة: عصاً عليه زُجّ"، وقال: "القصَّة البيضاء: تريد بذلك الطهر من الحيضة".
2- ذكر الناسخ والمنسوخ:
كان الإمام البخاري يصرِّح أحيانا بأن الحديث منسوخ، أو بأنه الآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتفي أحيانا أخرى بتأخير الناسخ.
3- ذكر مختلف الحديث:
كان الإمام البخاري يبين مختلف الحديث، ويحلُّ بعض ما أُشكل منه، قال في الباب الذي أخرج فيه حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعا: (شهران لا ينقصان: شهرا عيدٍ، رمضان وذو الحجة)، قال أبو عبد الله: "قال إسحاق: وإن كان ناقصا فهو تمام، وقال محمد – يعني البخاري نفسه -: لا يجتمعان كلاهما ناقص".
المصدر: موقع إسلام ويب